كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَلِهَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي بِالْمَغْرَمِ أَنَّهُ لَا يَرْجُو ثَوَابًا عِنْدَ اللهِ وَلَا مُجَازَاةً وَإِنَّمَا يُعْطِي مَا يُعْطِي مِنَ الصَّدَقَاتِ كُرْهًا. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ إِنَّمَا يُنْفِقُونَ رِيَاءً اتِّقَاءَ أَنْ يُغْزَوْا وَيُحَارَبُوا وَيُقَاتَلُوا وَيَرَوْنَ نَفَقَاتِهِمْ مَغْرَمًا (قَالَ) وَهُمْ بَنُو أَسَدٍ وَغَطَفَانَ.
{وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} أَيْ يَنْتَظِرُونَ دَوَائِرَ الزَّمَانِ: أَيْ تَصَارِيفَهُ وَنَوَائِبَهُ الَّتِي تَدُورُ بِالنَّاسِ وَتُحِيطُ بِهِمْ بِشُرُورِهَا أَنْ تَنْزِلَ بِكُمْ فَتُبَدِّلَ قُوَّتَكُمْ ضَعْفًا، وَعِزَّكُمْ ذُلًّا، وَانْتِصَارَكُمْ هَزِيمَةً وَكَسْرًا، فَيَسْتَرِيحُوا مِنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْمَغَارِمِ لَكُمْ، بِالتَّبَعِ لِلْخُرُوجِ مِنْ طَاعَتِكُمْ، وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ نِفَاقًا لَكُمْ. كَانُوا أَوَّلًا يَتَوَقَّعُونَ ظُهُورَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا يَئِسُوا مِنْ ذَلِكَ صَارُوا يَنْتَظِرُونَ مَوْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَمُوتُ بِمَوْتِهِ- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ-. وَهَكَذَا يُعَلِّلُ الْجَاهِلُ الضَّعِيفُ نَفْسَهُ الْخَبِيثَةَ بِالْأَمَانِيِّ وَالْأَوْهَامِ.
وَإِذَا كَانَ مُنَافِقُو الْمَدِينَةِ الَّذِينَ هُمْ أَجْدَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ أَنْ يَعْلَمُوا مَا فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْقُوَّةِ الذَّاتِيَّةِ، وَمَا فِي اعْتِصَامِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ بِهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ، كَانُوا يَتَرَبَّصُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْهَزِيمَةَ مِنَ الرُّومِ فِي تَبُوكَ، وَكَانُوا إِنْ أَصَابَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُصِيبَةٌ مِمَّا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْبَشَرُ يَفْرَحُونَ وَيَقُولُونَ: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} (9: 5) أَيِ احْتَطْنَا لِهَذِهِ الْعَاقِبَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، فَهَلْ يُسْتَغْرَبُ مِثْلُ هَذَا التَّرَبُّصِ مِنَ الْأَعْرَابِ سُكَّانِ الْبَادِيَةِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ مَا ذُكِرَ؟ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ 50- 45) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِمَا يَتَرَبَّصُونَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ، أَوْ خَبَرٌ بِحَقِيقَةِ حَالِهِمْ مَعَهُمْ، وَمَآلُ الِاحْتِمَالَيْنِ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى حَقٌّ وَمَضْمُونَهُ كَمَضْمُونِ الدُّعَاءِ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ، وَالدُّعَاءُ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ يُرَادُ بِهِ مَآلُهُ وَهُوَ وُقُوعُ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ وَإِحَاطَتُهُ بِهِمْ.
وَ{السَّوْء} بِالْفَتْحِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَهُوَ مَصْدَرُ سَاءَهُ الْأَمْرُ ضِدَّ سَرَّهُ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ الْفَتْحِ بِالضَّمِّ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يَسُوءُ، وَالْإِضَافَةُ: كَرَجُلِ صِدْقٍ وَقَدَمِ صِدْقٍ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ يُفِيدُ الْحَصْرَ: أَيْ عَلَيْهِمْ وَحْدَهُمُ الدَّائِرَةُ السُّوأَى تُحِيطُ بِهِمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَهَا بِهِمْ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا عَاقِبَةَ لَهُمْ تَتَرَبَّصُ بِهِمْ إِلَّا مَا يَسُرُّهُمْ وَيُفْرِحُهُمْ مِنْ نَصْرِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ لَهُمْ، وَمَا يَسُوءُ أَعْدَاءَهُمْ مِنْ خِذْلَانٍ وَخَيْبَةٍ وَتَعْذِيبٍ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ حَتَّى بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} (52) وَقوله: {فَلَا تُعْجِبْكُ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ} (55).
{وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْمُعَبِّرَةِ عَنْ شُعُورِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ فِي نَفَقَاتِهِمْ إِذَا تَحَدَّثُوا بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَقْوَالِهِمُ الَّتِي يَقُولُونَهَا لِلرَّسُولِ أَوْ لِعُمَّالِهِ عَلَى الصَّدَقَاتِ، أَوْ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُرَاءَاةً لَهُمْ، وَلَا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا وَمِنْ نِيَّاتِهِمْ وَسَرَائِرِهِمُ الَّتِي يُخْفُونَهَا، فَهُوَ سَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى مَا يَسْمَعُ وَيَعْلَمُ- أَيْ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ- وَيَجْزِيهِمْ بِهِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ حَالَ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ الْمُنَافِقِينَ عَطَفَ عَلَيْهِ بَيَانَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ فَقَالَ.
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إِيمَانًا صَادِقًا إِذْعَانِيًّا تَصْدُرُ عَنْهُ آثَارُهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
قال مُجَاهِدٌ: هُمْ بَنُو مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} (92) الْآيَةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمْ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَجُهَيْنَةُ وَمُزَيْنَةُ، وَثَمَّ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فِيهِمْ وَالنَّصُّ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَعْرَابِ وَقَدْ ذَكَرَ مِنْ وَصْفِهِمْ ضِدَّ مَا ذَكَرَهُ فِي وَصْفِ مَنْ قَبْلَهُمْ فِي أَمْرِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقال: {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} أَيْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُهُ وَسِيلَةً لِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَوَّلُهُمَا الْقُرُبَاتُ وَالزُّلْفَى عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَثَانِيهِمَا صَلَوَاتُ الرَّسُولِ، أَيْ أَدْعِيَتُهُ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو لِلْمُتَصَدِّقِينَ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي النَّصِّ انْتِفَاعُ أَحَدٍ بِعَمَلِ غَيْرِهِ إِلَّا الدُّعَاءَ وَمَا يَكُونُ الْمَرْءُ سَبَبًا فِيهِ كَالْوَلَدِ الصَّالِحِ، وَالسَّنَّةُ الْحَسَنَةُ يُتَّبَعُ فِيهَا. فَهَذَا الْقَصْدُ فِي اتِّخَاذِ الصَّدَقَاتِ ضِدُّ اتِّخَاذِ الْمُنَافِقِينَ إِيَّاهَا مَغْرَمًا. وَالْقُرُبَاتُ كَالْقُرَبِ جَمْعُ قُرْبَةٍ (بِضَمِّ الْقَافِ) وَهِيَ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ. كَالْقُرْبِ فِي الْمَكَانِ وَالْقُرْبَى فِي الرَّحِمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ: وَهُوَ الدُّنُوُّ مِنَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا، فَقَصْدُ الْقُرْبَةِ فِي الْعَمَلِ هُوَ الْإِخْلَاصُ وَابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَمَثُوبَتِهِ فِيهِ، وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ النَّفَقَاتِ فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى إِخْلَاصِهِمْ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا وَالصَّلَوَاتُ جَمْعُ صَلَاةٍ وَمَعْنَاهَا، أَوْ أَحَدُ مَعَانِيهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الدُّعَاءُ، وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ شَرْعِيٌّ وَجْهُهُ أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ رُوحُهَا الْأَعْظَمُ؛ لِأَنَّهُ مُخُّ الْعِبَادَةِ وَسِرُّهَا الَّذِي تَتَحَقَّقُ بِهِ الْعُبُودِيَّةُ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا وَهُوَ فِي الْفَاتِحَةِ فَرِيضَةٌ، وَفِي السُّجُودِ فَضِيلَةٌ وَيَأْتِي قَرِيبًا بَيَانُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُتَصَدِّقِينَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: (103).
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى جَزَاءَ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ عَلَى مَا يُشْهَدُ لَهُمْ بِهِ مِنْ صِدْقِ الْإِيمَانِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَدَائِهِمْ بِهِ حَقَّ اللهِ، وَهُوَ قَصْدُ الْقُرْبَةِ عِنْدَهُ. وَحَقُّ الرَّسُولِ وَهُوَ طَلَبُ دُعَائِهِ لَهُمْ بِقَبُولِ نَفَقَتِهِمْ وَإِثَابَتِهِمْ عَلَيْهَا، فَقَالَ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ الْمُشْعِرِ بِالِاهْتِمَامِ.
{أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} وَهُوَ إِخْبَارٌ بِقَبُولِهِ تَعَالَى لِنَفَقَتِهِمْ. مُؤَكَّدٌ بِافْتِتَاحِهِ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِمَا بَعْدَهَا وَهِيَ (أَلَا) وَبِـ (إِنَّ) الدَّالَّةِ عَلَى تَحْقِيقِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فَقوله تعالى: {إِنَّهَا قُرْبَةٌ} رَاجِعٌ إِلَى النَّفَقَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {مَا يُنْفِقُ} فَإِفْرَادُ الْقُرْبَةِ لِأَنَّهَا خَبَرٌ لِضَمِيرِ الْمُفْرَدِ.
وَقَوْلُهُ: {سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ} تَفْسِيرٌ لِهَذِهِ الْقُرْبَةِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّحْمَةِ هُنَا الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ بِمَنْ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَهِيَ هِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَمَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مِنْ دَارِ نَعِيمٍ وَمَعْنَى إِدْخَالِهِمْ فِيهَا أَنْ يَكُونُوا مَغْمُورِينَ فِيهَا وَتَكُونُ هِيَ مُحِيطَةً بِهِمْ شَامِلَةً لَهُمْ. وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ مَثَلٍ {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} (9: 21) وَالسِّينُ فِي قَوْلِهِ: {سَيُدْخِلُهُمْ} لِتَأْكِيدِ الْوَعْدِ وَتَحْقِيقِهِ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ. وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أَيْ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ يَغْفِرُ لِلْمُخْلِصِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ مَا يُلِمُّونَ بِهِ مِنْ ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ، وَيَرْحَمُ الصَّادِقِينَ فِي إِيمَانِهِمْ فَيَهْدِيهِمْ بِهِ إِلَى أَحْسَنِ الْعَمَلِ وَخَيْرِ الْمَصِيرِ. وَفِي الْآيَةِ مِنْ بَلَاغَةِ الْإِيجَازِ مَا يَدُلُّ عَلَى عُلُوِّ مَقَامِ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ.
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
هَذَا تَقْسِيمٌ آخَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ وَالْبَدْوِ جَمِيعًا، عَطَفَ عَلَى تَقْسِيمِ الْأَعْرَابِ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، قَالَ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} هَذِهِ طَبَقَاتٌ ثَلَاثٌ هِيَ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ فِي جُمْلَتِهَا خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ:
(فَالْأُولَى) السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ قِيلَ: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَابْنِ سِيرِينَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ بَدْرٍ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرُّضْوَانِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَعَلَيْهِ الشَّعْبِيُّ وَلَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَمَا قَبْلَهُ فِي السَّابِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ جَمِيعًا وَأَمَّا السَّابِقُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَحْدَهُمْ فَهُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ يَضْطَهِدُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي بِلَادِهِمْ وَيُقَاتِلُونَهُمْ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَلَا يُمَكِّنُونَ أَحَدًا مِنَ الْهِجْرَةِ مَا وَجَدُوا إِلَى صَدِّهِ سَبِيلًا، وَلَا مَنْجَاةَ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ شَرِّهِمْ إِلَّا بِالْفِرَارِ أَوِ الْجِوَارِ، فَالَّذِينَ هَاجَرُوا قَبْلَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ كَانُوا كُلُّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ مُنَافِقٌ كَمَا قُلْنَا؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلنِّفَاقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُقْتَضًى وَلَا سَبَبٌ، وَلَا لِلْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ دَاعٍ غَيْرَ الْإِخْلَاصِ فِي الْإِيمَانِ وَإِقَامَةِ بِنَاءِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ يَتَفَاضَلُونَ فِي السَّبْقِ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، فَأَفْضَلُهُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ فَسَائِرُ الَّذِينَ بَشَّرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ بِأَشْخَاصِهِمْ، وَمَا كُلُّ سَابِقٍ أَفْضَلُ مَنْ كُلِّ مَسْبُوقٍ، وَمِنَ السَّابِقِينَ بِالْإِيمَانِ مَنْ سَبَقَهُ غَيْرُهُ بِالْهِجْرَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ عَلَى الْإِطْلَاقِ خَدِيجَةُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم بَلَّغَهَا خَبَرَ بَعْثَتِهِ قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ فَصَدَّقَتْ وَآمَنَتْ، وَيَلِيهَا مَنْ كَانَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهَا، وَهُمْ عَلِيٌّ وَكَانَ ابْنَ 10 سِنِينَ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَمِنْ خَارِجِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ آمَنَ عِنْدَمَا دَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِغَيْرِ أَدْنَى تَرَيُّثٍ أَوْ تَرَدُّدٍ، وَلَا فِي أَنَّهُ أَوَّلُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ الرَّسُولِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْغَارِ، وَأَوَّلُ الدُّعَاةِ إِلَى الْإِسْلَامِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ) السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُمُ الَّذِينَ بَايَعُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْعَقَبَةِ فِي مِنًى فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ وَكَانُوا سَبْعَةً، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ، وَيَلِيهِمُ الَّذِينَ آمَنُوا حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو زُرَارَةَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ مِنْ قِبَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ وَيُفَقِّهُهُمْ فِي الدِّينِ، وَأَرْسَلَهُ مَعَ أَهْلِ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ وَكَذَا مَنْ آمَنَ عِنْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَبْلَ أَنْ تَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ غَالِبَةٌ تُتَّقَى وَتُرْتَجَى، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ رَسَخَتْ عَقِبَ هِجْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَصَارَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ نِفَاقًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي شَأْنِ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} (8: 49) وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَا مِنَ الْأَنْصَارِ السَّابِقِينَ وَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ.
(الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ) الَّذِينَ اتَّبَعُوا هَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ اتِّبَاعًا بِإِحْسَانٍ، أَوْ مُحْسِنِينَ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، فَتَضَمَّنَ هَذَا الْقَيْدُ الشَّهَادَةَ لِلسَّابِقِينَ بِكَمَالِ الْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِيهِ أَئِمَّةً مَتْبُوعِينَ، وَخَرَجَ بِهِ مَنِ اتَّبَعُوهُمْ فِي ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ مُسِيئِينَ غَيْرَ مُحْسِنِينَ فِي هَذَا الِاتِّبَاعِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَمَنِ اتَّبَعُوهُمْ مُحْسِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ وَمُسِيئِينَ فِي بَعْضٍ وَهْمُ الْمُذْنِبُونَ وَالْآيَاتُ مُبَيِّنَةٌ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ.
هَؤُلَاءِ الطَّبَقَاتُ الثَّلَاثُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي إِيمَانِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ وَإِحْسَانِهِمْ وَأَعْلَاهُ مَا كَانَ مِنْ هِجْرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، فَقَبِلَ طَاعَاتِهِمْ، وَغَفَرَ سَيِّئَاتِهِمْ، وَتَجَاوَزَ عَنْ زَلَّاتِهِمْ، إِذْ بِهِمْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ، وَنَكَّلَ بِأَعْدَائِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ {وَرَضُوا عَنْهُ} بِمَا وَفَّقَهُمْ لَهُ، وَأَسْبَغَهُ عَلَيْهِمْ مَنْ نِعَمِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَأَنْقَذَهُمْ مِنْ شِرْكٍ وَهَدَاهُمْ مِنْ ضَلَالٍ، وَأَغْنَاهُمْ مِنْ فَقْرٍ وَأَعَزَّهُمْ مِنْ ذُلٍّ.
{وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الْوَعْدِ الْكَرِيمِ فِي الْآيَةِ (72) وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، وَأَيُّ فَوْزٍ أَعْظَمُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ الْخَالِدِ مِنْ بَدَنِيٍّ وَرُوحَانِيٍّ؟
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {وَالْأَنْصَارِ} بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى: {الْمُهَاجِرِينَ}، وَقَرَأَهَا يَعْقُوبُ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى {وَالسَّابِقُونَ} وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ، بَلْ رُوِيَ أَيْضًا- وَفِيهِ نَظَرٌ عِنْدِي أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَرَأَهَا كَذَلِكَ مَعَ جَعْلِ {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ} صِفَةً لِلْأَنْصَارِ وَأَنْكَرَ عَلَى رَجُلٍ قَرَأَهَا بِالْخَفْضِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَلَقَّاهَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَاتِبِ الْوَحْيِ وَجَامِعِ الْقُرْآنِ فَسَأَلَ عُمَرُ أُبَيًّا فَصَدَّقَهُ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَكَذَا سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا هَكَذَا أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى جِبْرِيلَ وَنَزَلَ بِهَا جِبْرِيلُ عَلَى قَلْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّا رُفِعْنَا رِفْعَةً لَا يَبْلُغُهَا أَحَدٌ بَعْدَنَا- يَعْنِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ- فَقَالَ أُبَيٌّ: تَصْدِيقُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجُمْعَةِ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (62: 3).
وَلَفْظُ الِاتِّبَاعِ فِيهَا نَصٌّ فِي الصَّحَابَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي صِفَتَيْهِمْ: الْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ التَّابِعُونَ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الدِّينَ وَالْعِلْمَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَنَالُوا شَرَفَ الصُّحْبَةِ وَالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ، وَتَسْمِيَةُ هَؤُلَاءِ بِالتَّابِعِينَ اصْطِلَاحِيَّةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَانْتِقَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى.
وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ، وَعَبَّرَ فِيهِ عَنِ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} (8: 75) وَذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِهَا آيَاتُ سُورَةِ الْحَشْرِ وَقَدْ عَبَّرَ فِيهَا عَنِ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (59: 10) إِلَخْ وَلَا شَكَّ فِي مُشَارَكَةِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ لِأُولَئِكَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ فِي رِضَاءِ اللهِ وَثَوَابِهِ بِقَدْرِ اتِّبَاعِهِمْ لَهُمْ فِي الْهِجْرَةِ إِنْ وُجِدَتْ أَسْبَابُهَا وَالْجِهَادِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ لِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهَا نُصْرَتُهُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَفِي سَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَإِنَّ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي حُكْمِ اللهِ الْحَقُّ وَشَرْعُهُ الْعَدْلُ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلِلسَّابِقِينَ فِي كُلِّ عَمَلٍ فَضِيلَةُ السَّبْقِ وَالْإِمَامَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَيَمْتَازُ عَصْرُ الرَّسُولِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَأُقِيمَ بُنْيَانُهُ، وَرُفِعَتْ أَرْكَانُهُ، وَنُشِرَتْ فِي الْخَافِقَيْنِ أَعْلَامُهُ، عَلَى كُلِّ عَصْرٍ بَعْدَهُ، وَهُمُ الْأَقَلُّونَ الْمُقَرَّبُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} (56: 10- 14).